الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: بداية المجتهد وكفاية المقتصد **
(بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما). -والنظر في هذا الكتاب، فيمن يرث، وفيمن لا يرث. ومن يرث هل يرث دائما، أو مع وارث دون وارث؛ وإذا ورث مع غيره فكم يرث وكذلك إذا ورث وحده كم يرث؟ وإذا ورث مع وارث، فهل يختلف ذلك بحسب وارث وارث أو لا يختلف؟. والتعليم في هذا يمكن على وجوه كثيرة قد سلك أكثرها أهل الفرائض، والسبيل الحاضرة في ذلك بأن يذكر حكم جنس جنس من أجناس الورثة إذا انفرد ذلك الجنس وحكمه مع سائر الأجناس الباقية، مثال ذلك أن ينظر إلى الولد إذا انفرد كم ميراثه، ثم ينظر حاله مع سائر الأجناس الباقية من الوارثين. فأما الأجناس الوارثة فهي ثلاثة: ذو نسب وأصهار، وموالي. فأما ذوو النسب، فمنها متفق عليها، ومنها مختلف فيها. فأما المتفق عليها فهي الفروع: أعني الأولاد، والأصول: أعني الآباء والأجداد ذكورا كانوا أو إناثا، وكذلك الفروع المشاركة للميت في الأصل الأدنى: أعني الإخوة ذكورا أو إناثا، أو المشاركة الأدنى أو الأبعد في أصل واحد وهم الأعمام وبنو الأعمام، وذلك الذكور من هؤلاء خاصة فقط، وهؤلاء إذا فصلوا كانوا من الرجال عشرة ومن النساء سبعة؛ أما الرجال: فالابن وابن الابن وإن سفل والأب والجد أبو الأب وإن علا والأخ من أي جهة كان: أعني للأم والأب أو لأحدهما وابن الأخ وإن سفل والعم وابن العم وإن سفل والزوج ومولى النعمة. وأما النساء: فالابنة وابنة الابن وإن سفلت والأم والجدة وإن علت والأخت والزوجة والمولاة. وأما المختلف فيهم فهم ذوو الأرحام، وهم من لا فرض لهم في كتاب الله ولا هم عصبة، وهم بالجملة بنو البنات وبنات الإخوة وبنو الأخوات وبنات الأعمام والعم أخو الأب للأم فقط وبنو الأخوة للأم والعمات والخالات والأخوال؛ فذهب مالك والشافعي وأكثر فقهاء الأمصار وزيد بن ثابت من الصحابة إلى أنه لا ميراث لهم؛ وذهب سائر الصحابة وفقهاء العراق والكوفة والبصرة وجماعة العلماء من سائر الآفاق إلى توريثهم. والذين قالوا بتوريثهم اختلفوا في صفة توريثهم؛ فذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى توريثهم على ترتيب العصبات، وذهب سائر من ورثهم إلى التنزيل، وهو أن ينزل كل من أدلى منهم بذي سهم أو عصبة بمنزلة السبب الذي أدلى به. وعمدة مالك ومن قال بقوله أن الفرائض لما كانت لا مجال للقياس فيها كان الأصل أن لا يثبت فيها شيء إلا بكتاب أو سنة ثابتة أو إجماع، وجميع ذلك معدوم في هذه المسألة. وأما الفرقة الثانية، فزعموا أن دليلهم على ذلك من الكتاب والسنة والقياس. أما الكتاب فقوله تعالى -( -( -( -( -( -( فسبب الخلاف تعارض القياس في هذا الباب. فإن قيل: فأي القياسين أرجح بحسب النظر الشرعي؟ قلنا: قياس من ساوى بين الأب والجد، فإن الجد أب في المرتبة الثانية أو الثالثة، كما أن الابن ابن في المرتبة الثانية أو الثالثة، وإذا لم يحجب الابن الجد وهو يحجب الإخوة فالجد يجب أن يحجب من يحجب الابن، والأخ ليس بأصل للميت ولا فرع، وإنما هو مشارك له في الأصل، والأصل أحق بالشيء من المشارك له في الأصل، والجد ليس هو أصلا للميت من قبل الأب بل هو أصل أصله، والأخ يرث من قبل أنه فرع لأصل الميت، فالذي هو أصل لأصله أولى من الذي هو فرع لأصله، ولذلك لا معنى لقول من قال إن الأخ يدلي بالبنوة، والجد يدلي بالأبوة، فإن الأخ ليس ابنا للميت وإنما هو ابن أبيه، والجد أبو الميت، والبنوة إنما هي أقوى في الميراث من الأبوة في الشخص الواحد بعينه أعني الموروث. وأما البنوة التي تكون لأب موروث، فليس يلزم أن تكون في حق الموروث أقوى من الأبوة التي تكون لأب الموروث، لأن الأبوة التي لأب الموروث هي أبوة ما للموروث: أعني بعيدة، وليس البنوة التي لأب الموروث بنوة ما للموروث لا قريبة ولا بعيدة، فمن قال الأخ أحق من الجد، لأن الأخ يدلي بالشيء الذي من قبله كان الميراث بالبنوة وهو الأب والجد يدلي بالأبوة هو قول غالط مخيل، لأن الجد أب ما، وليس الأخ ابنا ما. وبالجملة الأخ لاحق من لواحق الميت، وكأنه أمر عارض والجد سبب من أسبابه، والسبب أملك للشيء من لاحقه. واختلف الذين ورثوا الجد مع الإخوة في كيفية ذلك. فتحصيل مذهب زيد في ذلك أنه لا يخلو أن يكون معه سوى الإخوة ذو فرض مسمى أو لا يكون، فإن لم يكن معه ذو فرض مسمى أعطى الأفضل له من اثنين، إما ثلث المال، وإما أن يكون كواحد من الإخوة الذكور، وسواء كان الإخوة ذكرانا أو إناثا أو الأمرين جميعا فهو مع الأخ الواحد يقاسمه المال، وكذلك مع الاثنين ومع الثلاثة والأربعة يأخذ الثلث، وهو مع الأخت الواحدة إلى الأربع يقاسمهن للذكر مثل حظ الأنثيين، ومع الخمس أخوات له الثلث، لأنه أفضل له من المقاسمة، فهذه هي حاله مع الإخوة فقط دون غيرهم. وأما إن كان معهم ذو فرض مسمى فإنه يبدأ بأهل الفروض فيأخذون فروضهم، فما بقي أعطى الأفضل له من ثلاث: إما ثلث ما بقي بعد حظوظ ذوي الفرائض، وإما أن يكون بمنزلة ذكر من الإخوة، وإما أن يعطي السدس من رأس المال لا ينقص منه، ثم ما بقي يكون للإخوة للذكر مثل حظ الأنثيين في الأكدرية على ما سنذكر مذهبه فيها مع سائر مذاهب العلماء. وأما علي رضي الله عنه فكان يعطي الجد الأحظى له من السدس أو المقاسمة، وسواء كان مع الجد والإخوة غيرهم من ذوي الفرائض أو لم يكن، وإنما لم ينقصه من السدس شيئا، لأنهم لما أجمعوا أن الأبناء لا ينقصونه منه شيئا كان أحرى أن لا ينقصه الإخوة. وعمدة قول زيد أنه لما كان يحجب الإخوة للأم فلم يحجب عما يجب لهم وهو الثلث، وبقول زيد قال مالك والشافعي والثوري وجماعة، وبقول علي رضي الله عنه قال أبو حنيفة. وأما الفريضة التي تعرف بالأكدرية وهي امرأة توفيت وتركت زوجا وأما وأختا شقيقة وجدا فإن العلماء اختلفوا فيها، فكان عمر رضي الله عنه وابن مسعود يعطيان للزوج النصف وللأم السدس وللأخت النصف وللجد السدس، وذلك على جهة العول. وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه وزيد يقولان للزوج النصف وللأم الثلث وللأخت النصف وللجد السدس فريضة، إلا أن زيدا يجمع سهم الأخت والجد، فيقسم ذلك بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين، وزعم بعضهم أن هذا ليس من قول زيد، وضعف الجميع التشريك الذي قال به زيد في هذه الفريضة، وبقول زيد قال مالك؛ وقيل إنما سميت الأكدرية لتكدر قول زيد فيها، وهذا كله على مذهب من يرى العول، وبالعول قال جمهور الصحابة وفقهاء الأمصار، إلا ابن عباس فإنه روي عنه أنه قال: أعال الفرائض عمر بن الخطاب، وايم الله لو قدم من قدم الله وأخر من أخر الله ما عالت فريضة، وقيل له: وأيها قدم الله، وأيها أخر الله؟ قال: كل فريضة لم يهبطها الله عز وجل عن موجبها إلا إلى فريضة أخرى فهي ما قدم الله، وكل فريضة إذا زالت عن فرضها لم يكن لها إلا ما بقي فتلك التي أخر الله فالأول مثل الزوجة والأم، والمتأخر مثل الأخوات والبنات، قال: فإذا اجتمع الصنفان بدئ من قدم الله، فإن بقي شيء فلمن أخر الله، وإلا فلا شيء له، وقيل له: فهلا قلت هذا القول لعمر: قال: هبته. وذهب زيد إلى أنه إذا كان مع الجد والإخوة الشقائق إخوة لأب، أن الإخوة الشقائق يعادون الجد بالإخوة للأب، فيمنعونه بهم كثرة الميراث، ولا يرثون مع الإخوة الشقائق شيئا إلا أن يكون الشقائق أختا واحدة، فإنها تعادي الجد بأخوتها للأب ما بينهما (هكذا هذه العبارة بالأصول، ولينظر ما معناها ا هـ مصححه). وبين أن تستكمل فريضتها وهي النصف، وإن كان فيما يحاز لها ولإخوتها لأبيها فضل عن نصف رأس المال كله، فهو لإخوتها لأبيها للذكر مثل حظ الأنثيين، فإن لم يفضل شيء على النصف فلا ميراث لهم، فأما علي رضي الله عنه فكان لا يلتفت هنا للأخوة للأب للإجماع، على أن الإخوة الشقائق يحجبونهم، ولأن هذا الفعل أيضا مخالف للأصول، أعني أن يحتسب بمن لا يرث، واختلف الصحابة رضي الله عنهم من هذا الباب في الفريضة التي تدعى الخرقاء، وهي أم وأخت وجد على خمسة أقوال. فذهب أبو بكر رضي الله عنه وابن عباس إلى أن للأم الثلث والباقي للجد وحجبوا به الأخت، وهذا على رأيهم في إقامة الجد مقام الأب. وذهب علي رضي الله عنه إلى أن للأم الثلث وللأخت النصف وما بقي للجد. وذهب عثمان إلى أن للأم الثلث وللأخت الثلث وللجد الثلث، وذهب ابن مسعود إلى أن للأخت النصف وللجد الثلث وللأم السدس، وكان يقول معاذ الله أن أفضل أما على جد. وذهب زيد إلى أن للأم الثلث وما بقي بين الجد والأخت للذكر مثل حظ الأنثيين. -( -وأجمع العلماء على أن الأخ الشقيق يحجب الأخ للأب، وأن الأخ للأب يحجب بني الأخ الشقيق، وأن بني الأخ الشقيق يحجبون أبناء الأخ للأب، وبنو الأخ للأب أولى من بني ابن الأخ للأب والأم، وبنو الأخ للأب أولى من العم أخي الأب، وإبن العم أخي الأب الشقيق أولى من ابن العم أخي الأب للأب، وكل واحد من هؤلاء يحجبون بنيهم، ومن حجب منهم صنفا فهو يحجب من يحجبه ذلك الصنف. وبالجملة، أما الإخوة فالأقرب منهم يحجب الأبعد، فإذا استووا حجب منهم من أدلى بسببين أم وأب من أدلى بسبب واحد وهو الأب فقط؛ وكذلك الأعمام الأقرب منه يحجب الأبعد، فإن استووا حجب منهم من يدلي منهم إلى الميت بسببين من يدلي بسبب واحد، أعني أنه يحجب العم أخو الأب لأب وابن العم الذي هو أخو الأب لأب فقط. وأجمعوا على أن الإخوة الشقائق والإخوة للأب يحجبون الأعمام، لأن الإخوة بنو أب المتوفي، والأعمام بنو جده، والأبناء يحجبون بنيهم، والآباء أجدادهم، والبنون وبنوهم يحجبون الإخوة، والجد يحجب من فوقه من الأجداد بإجماع، والأب يحجب الإخوة ويحجب من تحجبه الإخوة، والجد يحجب الأعمام بإجماع والإخوة للأم، ويحجب بنو الإخوة الشقائق وبني الإخوة للأب، والبنات وبنات البنين يحجبن الإخوة للأم. واختلف العلماء فيمن ترك ابني عم أحدهما أخ للأم، فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة والثوري: للأخ للأم السدس من جهة ما هو أخ لأم وهو في باقي المال مع ابن العم الآخر عصبة يقتسمونه بينهم على السواء، وهو قول علي رضي الله عنه وزيد وابن عباس؛ وقال قوم: المال كله لابن العم الذي هو أخ لأم يأخذ سدسه بالأخوة وبقيته بالتعصيب، لأنه قد أدلى بسببين. وممن قال بهذا القول من الصحابة ابن مسعود، ومن الفقهاء داود وأبو ثور والطبري، وهو قول الحسن وعطاء. واختلف العلماء في رد ما بقي من مال الورثة على ذوي الفرائض إذا بقيت من المال فضلة لم تستوفها الفرائض ولم يكن هناك من يعصب، فكان زيد لا يقول بالرد ويجعل الفاضل في بيت المال، وبه قال مالك والشافعي؛ وقال جل الصحابة بالرد على ذوي الفرائض ما عدا الزوج والزوجة وإن كانوا اختلفوا في كيفية ذلك، وبه قال فقهاء العراق من الكوفيين والبصريين. وأجمع هؤلاء الفقهاء على أن الرد يكون لهم بقدر سهامهم، فمن كان له نصف أخذ النصف مما بقي، وهكذا في جزء جزء. وعمدتهم أن قرابة الدين والنسب أولى من قرابة الدين فقط: أي أن هؤلاء اجتمع لهم سببان وللمسلمين سبب واحد. وهناك مسائل مشهورة الخلاف بين أهل العلم فيها تعلق بأسباب المواريث يجب أن نذكرها هنا، فمنها أنه أجمع المسلمون على أن الكافر لا يرث المسلم لقوله تعالى وقال أبو حنيفة والثوري وجمهور الكوفيين وكثير من البصريين يرثه ورثته من المسلمين وهو قول ابن مسعود من الصحابة وعلي رضي الله عنهما. وعمدة الفريق الأول عموم الحديث، وعمدة الحنفية تخصيص العموم بالقياس، وقياسهم في ذلك هو أن قرابته أولى من المسلمين لأنهم يدلون بسببين: بالإسلام والقرابة، والمسلمون بسبب واحد، وهو الإسلام، وربما أكدوا بما يبقى لما له من حكم الإسلام بدليل أنه لا يؤخذ في الحال حتى يموت فكانت حياته معتبرة في بقاء ماله على ملكه، وذلك لا يكون إلا بأن يكون لماله حرمة إسلامية، ولذلك لم يجز أن يقر على الارتداد، بخلاف الكافر، وقال الشافعي وغيره يؤخذ بقضاء الصلاة إذا تاب من الردة في أيام الردة، والطائفة الأخرى تقول: يوقف ماله لأن له حرمة إسلامية، وإنما وقف رجاء أن يعود إلى الإسلام، وأن استيجاب المسلمين لماله ليس على طريق الإرث وشذت طائفة فقالت: ماله للمسلمين عندما يرتد، وأظن أن أشهب ممن يقول بذلك. وأجمعوا على توريث أهل الملة الواحدة بعضهم بعضا. واختلفوا في توريث الملل المختلفة، فذهب مالك وجماعة إلى أن أهل الملل المختلفة لا يتوارثون كاليهود والنصارى، وبه قال أحمد وجماعة؛ وقال الشافعي وأبو حنيفة وأبو ثور والثوري وداود وغيرهم: الكفار كلهم يتوارثون، وكان شريح وابن أبي ليلى وجماعة يجعلون الملل التي لا تتوارث ثلاثا: النصارى واليهود والصابئين ملة، والمجوس ومن لا كتاب له ملة، والإسلام ملة. وقد روي عن ابن أبي ليلى مثل قول مالك. وعمدة مالك ومن قال بقوله ما روى الثقات عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا يتوارث أهل ملتين". وعمدة الشافعية والحنفية قوله عليه الصلاة والسلام "لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم" وذلك أن المفهوم من هذا بدليل الخطاب أن المسلم يرث المسلم والكافر يرث الكافر. والقول بدليل الخطاب فيه ضعف وخاصة هنا. واختلفوا في توريث الحملاء، والحملاء هم الذين يتحملون بأولادهم من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام، أعني أنهم يولدون في بلاد الشرك ثم يخرجون إلى بلاد الإسلام وهم يدعون تلك الولادة الموجبة للنسب، وذلك على ثلاثة أقوال: قول إنهم يتوارثون بما يدعون من النسب، وهو قول جماعة من التابعين وإليه ذهب إسحاق. وقول إنهم لا يتوارثون إلا ببينة تشهد على أنسابهم، وبه قال شريح والحسن وجماعة. وقول إنهم لا يتوارثون أصلا وروي عن عمر الثلاثة الأقوال، إلا أن الأشهر عنه أنه كان لا يورث إلا من ولد في بلاد العرب وهو قول عثمان وعمر بن عبد العزيز. وأما مالك وأصحابه فاختلف في ذلك قولهم، فمنهم من رأى أن لا يورثون إلا ببينة، وهو قول ابن القاسم: ومنهم من رأى أن لا يورثون أصلا ولا بالبينة العادلة؛ وممن قال بهذا القول من أصحاب مالك عبد الملك بن الماجشون، وروى ابن القاسم عن مالك في أهل حصن نزلوا على حكم الإسلام، فشهد بعضهم لبعض أنهم يتوارثون، وهذا يتخرج منه أنهم يتوارثون بلا بينة، لأن مالكا لا يجوز شهادة الكفار بعضهم على بعض قال: فأما إن سبوا فلا يقبل قولهم في ذلك وبنحو هذا التفصيل قال الكوفيون والشافعي وأحمد وأبو ثور، وذلك أنهم قالوا: إن خرجوا إلى بلاد الإسلام وليس لأحد عليهم يد قبلت دعواهم في أنسابهم، وأما إن أدركهم السبي والرق فلا يقبل قولهم إلا ببينة. ففي المسألة أربعة أقوال: اثنان طرفان، واثنان مفرقان. وجمهور العلماء من فقهاء الأمصار ومن الصحابة علي وزيد وعمر أن من لا يرث لا يحجب مثل الكافر والمملوك والقاتل عمدا، وكان ابن مسعود يحجب بهؤلاء الثلاثة دون أن يورثهم أعني بأهل الكتاب وبالعبيد وبالقاتلين عمدا، وبه قال داود وأبو ثور. وعمدة الجمهور أن الحجب في معنى الإرث وأنهما متلازمان. وحجة الطائفة الثانية أن الحجب لا يرتفع إلا بالموت. واختلف العلماء في الذين يفقدون في حرب أو غرق أو هدم ولا يدري من مات منهم قبل صاحبه كيف يتوارثون إذا كانوا أهل ميراث؟ فذهب مالك وأهل المدينة إلى أنهم لا يورث بعضهم من بعض، وأن ميراثهم جميعا لمن بقي من قرابتهم الوارثين أو لبيت المال إن لم تكن لهم قرابة ترث، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابه فيما حكى عنه الطحاوي. وذهب علي وعمر رضي الله عنهما وأهل الكوفة وأبو حنيفة فيما ذكر غير الطحاوي عنه وجمهور البصريين إلى أنهم يتوارثون، وصفة تواريثهم عندهم أنهم يورثون كل واحد من صاحبه في أصل ماله دون ما ورث بعضهم من بعض، أعني أنه لا يضم إلى مال المورث ما ورث من غيره، فيتوارثون الكل على أنه مال واحد كالحال في الذين يعلم من تقدم بعضهم على بعض، مثال ذلك زوج وزوجة توفيا في حرب أو غرق أو هدم ولكل واحد منهما ألف درهم، فيورث الزوج من المرأة خمسمائة درهم، وتورث المرأة من الألف التي كانت بيد الزوج دون الخمسمائة التي ورث منها ربعها وذلك مائتان وخمسون. ومن مسائل هذا الباب اختلاف العلماء في ميراث ولد الملاعنة وولد الزنى. فذهب أهل المدينة وزيد بن ثابت إلى أن ولد الملاعنة كما يورث غير ولد الملاعنة، وأنه ليس لأمه إلا الثلث والباقي لبيت المال، إلا أن يكون له إخوة لأم، فيكون لهم الثلث أو تكون أمه مولاة فيكون باقي مالها لمواليها، وإلا فالباقي لبيت مال المسلمين، وبه قال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابه، إلا أن أبا حنيفة على مذهبه يجعل ذوي الأرحام أولى من جماعة المسلمين. وأيضا على قياس من يقول بالرد يرد على الأم بقية المال؛ وذهب علي وعمر وابن مسعود إلى أن عصبته عصبة أمه أعني الذي يرثونها. وروي عن علي وابن مسعود أنهم لا يجعلونه عصبته عصبة أمه إلا مع فقد الأم وكانوا ينزلون الأم بمنزلة الأب وبه قال الحسن وابن سيرين والثوري وابن حنبل وجماعة. وعمدة الفريق الأول عموم قوله تعالى ومن مسائل ثبوت النسب الموجب للميراث اختلافهم فيمن ترك ابنين وأقر أحدهم بأخ ثالث وأنكر الثاني؛ فقال مالك وأبو حنيفة: يجب عليه أن يعطيه حقه من الميراث يعنون المقر، ولا يثبت بقوله نسبه، وقال الشافعي: لا يثبت النسب ولا يجب على المقر أن يعطيه من الميراث شيئا. واختلف مالك وأبو حنيفة في القدر الذي يجب على الأخ المقر، فقال مالك يجب عليه ما كان يجب عليه لو أقر الأخ الثاني وثبت النسب؛ وقال أبو حنيفة: يجب عليه أن يعطيه نصف ما بيده، وكذلك الحكم عند مالك وأبي حنيفة فيمن ترك ابنا واحدا فأقر بأخ له آخر، أعني أنه لا يثبت النسب ويجب الميراث؛ وأما الشافعي فعنه في هذه المسألة قولان: أحدهما أنه لا يثبت النسب ولا يجب الميراث. والثاني يثبت النسب ويجب الميراث، وهو الذي عليه تناظر الشافعية في المسائل الطبلولية ويجعلها مسألة عامة، وهو أن كل من يحوز المال يثبت النسب بإقراره وإن كان واحدا أخا أو غير ذلك. وعمدة الشافعية في المسألة الأولى؛ وفي أحد قوليه في هذه المسألة، أعني القول الغير المشهور أن النسب لا يثبت إلا بشاهدي عدل، وحيث لا يثبت فلا ميراث، لأن النسب أصل والميراث فرع، وإذا لم يوجد الأصل لم يوجد الفرع. وعمدة مالك وأبي حنيفة أن ثبوت النسب حق متعد إلى الأخ المنكر، فلا يثبت عليه إلا بشاهدين عدلين، وأما حظه من الميراث الذي بيد المقر فإقراره فيه عامل لأنه حق أقر به على نفسه. والحق أن القضاء عليه لا يصح من الحاكم إلا بعد ثبوت النسب وأنه لا يجوز له بين الله تعالى وبين نفسه أن يمنع من يعرف أنه شريكه في الميراث حظه منه. وأما عمدة الشافعية في إثباتهم النسب بإقرار الواحد الذي يحوز له الميراث فالسماع والقياس. -وأجمع العلماء على أن الأخ الشقيق يحجب الأخ للأب، وأن الأخ للأب يحجب أما السماع فحديث مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة المتفق على صحته قالت "كان عتبة بن أبي وقاص عهد إلى أخيه سعد بن أبي وقاص أن ابن وليدة زمعة مني فاقبضه إليك، فلما كان عام الفتح أخذه سعد بن أبي وقاص وقال: ابن أخي قد كان عهد إلي فيه، فقام إليه عبد بن زمعة، فقال: أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه، فتساوقاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال سعد: يا رسول الله ابن أخي قد كان عهد إلي فيه، فقام إليه عبد بن زمعة فقال: أخي وابن وليدة أبي على فراشه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو لك يا عبد بن زمعة، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الولد للفراش وللعاهر الحجر، ثم قال لسودة بنت زمعة: احتجبي منه، لما رأى من شبهه بعتبة بن أبي وقاص قالت: فما رآها حتى لقي الله عز وجل، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد بن زمعة بأخيه وأثبت نسبه بإقراره إذا لم يكن هنالك وارث منازع له" وأما أكثر الفقهاء فقد أشكل عليهم معنى هذا الحديث لخروجه عندهم عن الأصل المجمع عليه في إثبات النسب، ولهم في ذلك تأويلات، وذلك أن ظاهر هذا الحديث أنه أثبت نسبه بإقرار أخيه به، والأصل أن لا يثبت نسب إلا بشاهدي عدل، ولذلك تأول الناس في ذلك تأويلات، فقالت طائفة: إنه إنما أثبت نسبه عليه الصلاة والسلام بقول أخيه، لأنه يمكن أن يكون قد علم تلك الأمة كان يطؤها زمعة بن قيس، وأنها كانت فراشا له، قالوا: ومما يؤكد ذلك أنه كان صهره، وسودة بنت زمعة كانت زوجته عليه الصلاة والسلام، فيمكن أن لا يخفى عليه أمرها، وهذا على القول بأن للقاضي أن يقضي بعلمه، ولا يليق هذا التأويل بمذهب مالك، لأنه لا يقضي القاضي عنده بعلمه، ويليق بمذهب الشافعي على قوله الآخر، أعني الذي لا يثبت فيه النسب. والذين قالوا بهذا التأويل قالوا: إنما أمر سودة بالحجبة احتياطا لشبهة الشبه، لا أن ذلك كان واجبا، وقال لمكان هذا بعض الشافعية: إن للزوج أن يحجب الأخت عن أخيها؛ وقالت طائفة: أمره بالاحتجاب لسودة دليل على أنه لم يلحق نسبه بقول عتبة ولا بعلمه بالفراش. وافترق هؤلاء في تأويل قوله عليه الصلاة والسلام "هو لك" فقالت طائفة: إنما أراد هو عبدك إذا كان ابن أمة أبيك، وهذا غير ظاهر لتعليل رسول الله صلى الله عليه وسلم حكمه في ذلك بقوله "الولد للفراش وللعاهر الحجر" وقال الطحاوي: إنما أراد بقوله عليه الصلاة والسلام "هو لك يا عبد بن زمعة" أي يدك عليه بمنزلة ما هو يد اللاقط على اللقطة، وهذه التأويلات تضعف لتعليله عليه الصلاة والسلام حكمه بأن قال "الولد للفراش وللعاهر الحجر". وأما المعنى الذي يعتمده الشافعية في هذا المذهب، فهو أن إقرار من يحوز الميراث هو إقرار خلافة: أي إقرار من حاز خلافة الميت، وعند الغير أنه إقرار شهادة لا إقرار خلافة، يريد أن الإقرار الذي كان للميت انتقل إلى هذا الذي حاز ميراثه. واتفق الجمهور على أن أولاد الزنى لا يلحقون بآبائهم إلا في الجاهلية على ما روي عن عمر بن الخطاب على اختلاف في ذلك بين الصحابة؛ وشذ قوم فقالوا: يلتحق ولد الزنى في الإسلام، أعني الذي كان عن زنى في الإسلام. واتفقوا على أن الولد لا يلحق بالفراش في أقل من ستة أشهر، إما من وقت العقد، وإما من وقت الدخول، وأنه يلحق من وقت الدخول إلى أقصر زمان الحمل، أو إن كان قد فارقها واعتزلها. واختلفوا في أطول زمان الحمل الذي يلحق به الوالد الولد، فقال مالك: خمس سنين؛ وقال بعض أصحابه: سبع؛ وقال الشافعي: أربع سنين؛ وقال الكوفيون: سنتان: وقال محمد بن الحكم: سنة؛ وقال داود: ستة أشهر، وهذه المسألة مرجوع فيها إلى العادة والتجربة. وقول ابن عبد الحكم والظاهرية هو أقرب إلى المعتاد، والحكم إنما يجب أن يكون بالمعتاد لا بالنادر، ولعله أن يكون مستحيلا. وذهب مالك والشافعي إلى أن من تزوج امرأة ولم يدخل بها أو دخل بها بعد الوقت وأتت بولد لستة أشهر من وقت العقد لا من وقت الدخول أنه لا يلحق به إلا إذا أتت به لستة أشهر فأكثر من ذلك من وقت الدخول. وقال أبو حنيفة: هي فراش له ويلحقه الولد. وعمدة مالك أنها ليست بفراش إلا بإمكان الوطء وهو مع الدخول. وعمدة أبي حنيفة عموم قوله عليه الصلاة والسلام "الولد للفراش" وكأنه يرى أن هذا تعبد بمنزلة تغليب الوطء الحلال على الوطء الحرام في إلحاق الولد بالوطء الحلال. واختلفوا من هذا الباب في إثبات النسب بالقافة، وذلك عندما يطأ رجلان في طهر واحد بملك يمين أو بنكاح، ويتصور أيضا الحكم بالقافة في اللقيط الذي يدعيه رجلان أو ثلاثة. والقافة عند العرب: هم قوم كانت عندهم معرفة بفصول تشابه أشخاص الناس، فقال بالقافة من فقهاء الأمصار مالك والشافعي وأحمد وأبو ثور والأوزاعي وأبي الحكم بالقافة، الكوفيون وأكثر أهل العراق، والحكم عند هؤلاء أنه إذا ادعى رجلان ولدا كان الولد بينهما، وذلك إذا لم يكن لأحدهما فراش، مثل أن يكون لقيطا، أو كانت المرأة الواحدة لكل واحد منهما فراشا مثل الأمة أو الحرة يطؤها رجلان في طهر واحد؛ وعند الجمهور من القائلين بهذا القول أنه يجوز أن يكون عندهم للابن الواحد أبوان فقط؛ وقال محمد صاحب أبي حنيفة: يجوز أن يكون ابنا لثلاثة إن ادعوه، وهذا كله تخليط وإبطال للمعقول والمنقول. وعمدة استدلال من قال بالقافة ما رواه مالك عن سليمان بن يسار أن عمر ابن الخطاب كان يليط أولاد الجاهلية بمن استلاطهم: أي بمن ادعاهم في الإسلام فأتى رجلان كلاهما يدعي ولد امرأة، فدعا قائفا فنظر إليه فقال القائف: لقد اشتركا فيه، فضربه عمر بالدرة، ثم دعا المرأة فقال: أخبرني بخبرك، فقالت: كان هذا لأحد الرجلين يأتي في إبل لأهلها فلا يفارقها حتى يظن ونظن أنه قد استمر بها حمل، ثم انصرف عنها فأهريقت عليه دما، ثم خلف هذا عليها: تعني الآخر، فلا أدري أيهما هو، فكبر القائف، فقال عمر للغلام: وال أيهما شئت. قالوا: فقضاء عمر بمحضر من الصحابة بالقافة من غير إنكار من واحد منهم هو كالإجماع. وهذا الحكم عند مالك إذا قضى القافة بالاشتراك أن يؤخر الصبي حتى يبلغ، ويقال له: وال أيهما شئت، ولا يلحق واحد باثنين، وبه قال الشافعي؛ وقال أبو ثور: يكون ابنا لهما إذا زعم القائف أنهما اشتركا فيه؛ وعند مالك أنه ليس يكون ابنا للاثنين لقوله تعالى واختلفوا في ميراث القاتل على أربعة أقوال: فقال قوم: لا يرث القاتل أصلا من قتله. وقال آخرون: يرث القاتل وهم الأقل. وفرق قوم بين الخطأ والعمد فقالوا: لا يرث في العمد شيئا ويرث في الخطأ إلا من الدية، وهو قول مالك وأصحابه. وفرق قوم بين أن يكون في العمد قتل بأمر واجب أو بغير واجب، مثل أن يكون من له إقامة الحدود، وبالجملة بين أن يكون ممن يتهم أو لا يتهم. وسبب الخلاف معارضة أصل الشرع في هذا المعنى للنظر المصلحي، وذلك أن النظر المصلحي يقتضي أن لا يرث لئلا يتذرع الناس من المواريث إلى القتل واتباع الظاهر، والتعبد يوجب أن لا يلتفت إلى ذلك، فإنه لو كان ذلك مما قصد لالتفت إليه الشارع -فأما من يجب له الولاء، ففيه مسائل مشهورة تجري مجرى الأصول لهذا الباب. -( -( -( -( -( تم كتاب الفرائض والولاء والحمد لله حق حمده. (بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما). -والنظر في هذا الكتاب فيمن يصح عتقه ومن لا يصح، ومن يلزمه ومن لا يلزمه: أعني بالشرع، وفي ألفاظ العتق، وفي الإيمان به، وفي أحكامه وفي الشروط الواقعة فيه. ونحن فإنما نذكر من هذه الأبواب ما فيها من المسائل المشهورة التي يتعلق أكثرها بالمسموع. فأما من يصح عتقه، فإنهم أجمعوا على أنه يصح عتق المالك التام الملك الصحيح الرشيد القوي الجسم الغني غير العديم. واختلفوا في عتق من أحاط الدين بماله وفي عتق المريض وحكمه. فأما من أحاط الدين بماله، فإن العلماء اختلفوا في جواز عتقه، فقال أكثر أهل المدينة: مالك وغيره: لا يجوز ذلك، وبه قال الأوزاعي والليث؛ وقال فقهاء العراق: وذلك جائز حتى يحجر عليه الحاكم، وذلك عند من يرى التحجير منهم، وقد يتخرج عن مالك في ذلك الجواز قياسا على ما روي عنه في الرهن أنه يجوز، وإن أحاط الدين بمال الراهن ما لم يحجر عليه الحاكم. وعمدة من منع عتقه أن ماله في تلك الحال مستحق للغرماء، فليس له أن يخرج منه شيئا بغير عوض، وهي العلة التي بها يحجر الحاكم عليه التصرف والأحكام يجب أن توجد مع وجود عللها، وتحجير الحاكم ليس بعلة وإنما هو حكم واجب من موجبات العلة فلا اعتبار بوقوعه. وعمدة الفريق الثاني أنه قد انعقد بالإجماع على أن له أن يطأ جاريته ويحبلها ولا يرد شيئا مما أنفقه من ماله على نفسه وعياله حتى يضرب الحاكم على يديه فوجب أن يكون حكم تصرفاته هذا الحكم، وهذا هو قول الشافعي ولا خلاف عند الجميع أنه لا يجوز أن يعتق غير المحتلم ما لم تكن وصية منه، وكذلك المحجور؛ ولا يجوز عند العلماء عتقه لشيء من مماليكه إلا مالكا وأكثر أصحابه، فإنهم أجازوا عتقه لأم ولده. وأما المريض فالجمهور على أن عتقه إن صح وقع وإن مات كان من الثلث؛ وقال أهل الظاهر: هو مثل عتق الصحيح. وعمدة الجمهور حديث عمران بن الحصين أن رجلا أعتق ستة أعبد له، الحديث على ما تقدم. وأما من يدخل عليهم العتق كرها فهم ثلاثة من بعض العتق، وهذا متفق عليه في أحد قسميه واثنان مختلف فيهما وهما من ملك من يعتق عليه ومن مثل بعبده. فأما من بعض العتق فإنه ينقسم قسمين: أحدهما من وقع تبعيض العتق منه وليس له من العبد إلا الجزء المعتق. والثاني أن يكون يملك العبد كله ولكن بعض عتقه اختيارا منه. فأما العبد بين الرجلين يعتق أحدهما حظه منه فإن الفقهاء اختلفوا في حكم ذلك، فقال مالك والشافعي وأحمد بن حنبل: إن كان المعتق موسرا قوم عليه نصيب شريكه قيمة العدل، فدفع ذلك إلى شريكه وعتق الكل عليه وكان ولاؤه له، وإن كان المعتق معسرا لم يلزمه شيء وبقي المعتق بعضه عبدا وأحكامه أحكام العبد؛ وقال أبو يوسف ومحمد: إن كان معسرا سعى العبد في قيمته للسيد الذي لم يعتق حظه منه وهو حر يوم أعتق حظه منه الأول ويكون ولاؤه للأول، وبه قال الأوزاعي وابن شبرمة وابن أبي ليلى وجماعة الكوفيين، إلا أن ابن شبرمة وابن أبي ليلى جعلا للعبد أن يرجع على المعتق بما سعى فيه متى أيسر. وأما شريك المعتق فإن الجمهور على أن له الخيار في أن يعتق أو يقوم نصيبه على المعتق؛ وقال أبو حنيفة: لشريك الموسر ثلاث خيارات: أحدها أن يعتق كما أعتق شريكه ويكون الولاء بينهما، وهذا لا خلاف فيه بينهم. والخيار الثاني أن تقوم عليه حصته. والثالث أن يكلف العبد السعي في ذلك إن شاء ويكون الولاء بينهما وللسيد المعتق عبده عنده إذا قوم عليه شريكه نصيبه أن يرجع على العبد فيسعى فيه ويكون الولاء كله للمعتق. وعمدة مالك والشافعي حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "من أعتق شركا له في عبد وكان له مال يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة العدل، فأعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد وإلا فقد عتق منه ما عتق". وعمدة محمد وأبي يوسف صاحبي أبي حنيفة ومن يقول بقولهم حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "من أعتق شقصا له في عبده فخلاصه في ماله إن كان له مال، فإن لم يكن له مال استسعى العبد غير مشقوق عليه" وكلا الحديثين خرجه أهل الصحيح البخاري ومسلم وغيرهما، ولكل طائفة منهم قول في ترجيح حديثه الذي أخذ به، فمما وهنت فيه الكوفية حديث ابن عمر أن بعض رواته شك في الزيادة المعارضة فيه لحديث أبي هريرة، وهو قوله "وإلا فقد عتق منه ما عتق" فهل هو من قوله عليه الصلاة والسلام، أم من قول نافع "وإن في ألفاظه أيضا بين رواته اضطرابا. ومما وهن به المالكيون حديث أبي هريرة أنه اختلف أصحاب قتادة فيه على قتادة في ذكر السعاية. وأما من طريق المعنى فاعتمدت المالكية في ذلك على أنه إنما لزم السيد التقويم إن كان له مال للضرر الذي أدخله على شريكه والعبد لم يدخل ضررا فليس يلزمه شيء. وعمدة الكوفيين من طريق المعنى أن الحرية حق شرعي لا يجوز تبعيضه، فإذا كان الشريك المعتق موسرا عتق الكل عليه، وإذا كان معسرا سعى العبد في قيمته وفيه مع هذا رفع الضرر الداخل على الشريك وليس فيه ضرر على العبد، وربما أتوا بقياس شبهي وقالوا: لما كان العتق يوجد منه في الشرع نوعان: نوع يقع بالاختيار، وهو إعتاق السيد عبده ابتغاء ثواب الله. ونوع يقع بغير اختبار، وهو أن يعتق على السيد من لا يجوز له بالشريعة ملكه وجب أن يكون العتق بالسعي كذلك. فالذي بالاختيار منه هو الكتابة. والذي هو داخل بغير اختيار هو السعي. واختلف مالك والشافعي في أحد قوليه إذا كان المعتق موسرا هل يعتق عليه نصيب شريكه بالحكم أو بالسراية؟ أعني أنه يسري وجوب عتقه عليه بنفس العتق؟ فقالت الشافعية: يعتق بالسراية؛ وقالت المالكية بالحكم؛ واحتجت المالكية بأنه لو كان واجبا بالسراية لسرى مع العدم واليسر. واحتجت الشافعية باللازم عن مفهوم قوله عليه الصلاة والسلام "قوم عليه قيمة العدل" فقالوا: ما يجب تقويمه فإنما يجب بعد إتلافه فإذن بنفس العتق أتلف حظ صاحبه فوجب عليه تقويمه في وقت الإتلاف، وإن لم يحكم عليه بذلك حاكم، وعلى هذا فليس للشريك أن يعتق نصيبه، لأنه قد نفذ العتق وهذا بين. وقول أبي حنيفة في هذه المسألة مخالف لظاهر الحديثين، وقد روي فيها خلاف شاذ، فقيل عن ابن سيرين إنه جعل حصة الشريك في بيت المال؛ وقيل عن ربيعة فيمن أعتق نصيبا له في عبد أن العتق باطل؛ وقال قوم: لا يقوم على المعسر الكل، وينفذ العتق فيما أعتق؛ وقال قوم بوجوب التقويم على المعتق موسرا أو معسرا ويتبعه شريكه، وسقط العسر في بعض الروايات في حديث ابن عمر، وهذا كله خلاف الأحاديث، ولعلهم لم تبلغهم الأحاديث. واختلف قول مالك من هذا في فرع وهو إذا كان معسرا فأخر الحكم عليه بإسقاط التقويم حتى أيسر، فقيل يقوم، وقيل لا يقوم. واتفق القائلون بهذه الآثار على أن من ملك باختياره شقصا يعتق عليه من عبد: أنه يعتق عليه الباقي إن كان موسرا إلا إذا ملكه بوجه لا اختيار له فيه، وهو أن يملكه بميراث - فقال قوم: يعتق عليه في حال اليسر - وقال قوم: لا يعتق عليه؛ وقال قوم: في حال اليسر بالسعاية؛ وقال قوم: لا. وإذا ملك السيد جميع العبد فأعتق بعضه؛ فجمهور علماء الحجاز والعراق مالك والشافعي والثوري والأوزاعي وأحمد وابن أبي ليلى ومحمد بن الحسن وأبو يوسف يقولون: يعتق عليه كله، وقال أبو حنيفة وأهل الظاهر: يعتق منه ذلك القدر الذي عتق ويسعى العبد في الباقي، وهو قول طاوس وحماد. وعمدة استدلال الجمهور أنه لما ثبتت السنة في إعتاق نصيب الغير على الغير لحرمة العتق كان أحرى أن يجب ذلك عليه في ملكه. وعمدة أبي حنيفة أن سبب وجوب العتق على المبعض للعتق هو الضرر الداخل على شريكه، فإذا كان ذلك كله ملكا له لم يكن هنالك ضرر. فسبب الخلاف من طريق المعنى هل علة هذا الحكم حرمة العتق، أعني أنه لا يقع فيه تبعيض، أو مضرة الشريك؟. واحتجت الحنفية بما رواه إسماعيل بن أمية عن أبيه عن جده أنه أعتق نصف عبده، فلم ينكر رسول الله صلى الله عليه وسلم عتقه. ومن عمدة الجمهور ما رواه النسائي وأبو داود عن أبي المليح عن أبيه "أن رجلا من هذيل أعتق شقصا له من مملوك فتمم النبي عليه الصلاة والسلام عتقه وقال: ليس لله شريك" وعلى هذا فقد نص على العلة التي تمسك بها الجمهور، وصارت علتهم أولى، لأن العلة المنصوص عليها أولى من المستنبطة. فسبب اختلافهم تعارض الآثار في هذا الباب وتعارض القياس. وأما الإعتاق الذي يكون بالمثلة، فإن العلماء اختلفوا فيه، فقال مالك والليث والأوزاعي: من مثل بعبده أعتق عليه؛ وقال أبو حنيفة والشافعي: لا يعتق عليه؛ وشذ الأوزاعي فقال: من مثل بعبد غيره أعتق عليه والجمهور على أنه يضمن ما نقص من قيمة العبد، فمالك ومن قال بقوله اعتمد حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده "أن زنباعا وجد غلاما له مع جارية، فقطع ذكره وجدع أنفه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما حملك على ما فعلت؟ فقال: فعل كذا وكذا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اذهب فأنت حر. وعمدة الفريق الثاني قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر "من لطم مملوكه أو ضربه فكفارته عتقه" قالوا: فلم يلزم العتق في ذلك وإنما ندب إليه. ولهم من طريق المعنى أن الأصل في الشرع هو أنه لا يكره السيد على عتق عبده إلا ما خصصه الدليل. وأحاديث عمرو بن شعيب مختلف في صحتها، فلم تبلغ من القوة أن يخصص بها مثل هذه القاعدة. وأما هل يعتق على الإنسان أحد من قرابته، وإن عتق فمن يعتق؟ فإنهم اختلفوا في ذلك، فجمهور العلماء على أنه يعتق على الرجل بالقرابة إلا داود وأصحابه، فإنهم لم يروا أن يعتق أحد على أحد من قبل قربى، والذين قالوا بالعتق اختلفوا فيمن يعتق ممن لا يعتق بعد اتفافهم على أنه يعتق على الرجل أبوه وولده؛ فقال مالك: يعتق على الرجل ثلاثة: أحدها أصوله: وهم الآباء والأجداد والجدات والأمهات وآباؤهم وأمهاتهم، وبالجملة كل من كان له على الإنسان ولادة. والثاني فروعه، وهم: الأبناء والبنات وولدهم ما سفلوا، وسواء في ذلك ولد البنين وولد البنات، وبالجملة كل من للرجل عليه ولادة بغير توسط أو بتوسط، ذكر أو أنثى. والثالث الفروع المشاركة له في أصله القريب وهم الإخوة، وسواء كانوا لأب وأم، أو لأب فقط، أو لأم فقط؛ واقتصر من هذا العمود على القريب فقط، فلم يوجب عتق بني الإخوة. وأما الشافعي فقال مثل قول مالك في العمودين الأعلى والأسفل، وخالفه في الإخوة فلم يوجب عتقهم. وأما أبو حنيفة فأوجب عتق كل ذي رحم محرم بالنسب كالعم والعمة والخال والخالة وبنات الأخ، ومن أشبههم ممن هو من الإنسان ذو محرم. وسبب اختلاف أهل الظاهر مع الجمهور اختلافهم في مفهوم الحديث الثابت، وهو قوله عليه الصلاة والسلام "لا يجزي ولد عن والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه" خرجه مسلم والترمذي وأبو داود وغيرهم، فقال الجمهور: يفهم من هذا أنه إذا اشتراه وجب عليه عتقه، وأنه ليس يجب عليه شراؤه. وقالت الظاهرية: المفهوم من الحديث أنه ليس يجب عليه شراؤه ولا عتقه إذا اشتراه، قالوا: لأن إضافة عتقه إليه دليل على صحة ملكه له، ولو كان ما قالوا صوابا، لكان اللفظ إلا أن يشتريه فيعتق عليه. وعمدة الحنفية ما رواه قتادة عن الحسن عن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "من ملك ذا رحم محرم فهو حر" وكأن هذا الحديث لم يصح عند مالك والشافعي؛ وقاس مالك الإخوة على الأبناء والآباء، ولم يلحقهم بهم الشافعي واعتمد الحديث المتقدم فقط، وقاس الأبناء على الآباء. وقد رامت المالكية أن تحتج لمذهبها بأن البنوة صفة هي ضد العبودية، وأنه ليس تجتمع معها لقوله تعالى -والنظر في هذا الكتاب فيمن يصح عتقه ومن لا يصح، ومن يلزمه ومن لا وقد اختلفوا من أحكام العتق في مسألة مشهورة تتعلق بالسماع، وذلك أن الفقهاء اختلفوا فيمن أعتق عبيدا له في مرضه أو بعد موته ولا مال له غيرهم، فقال مالك والشافعي وأصحابهما وأحمد وجماعة: إذا أعتق في مرضه ولا مال له سواهم قسموا ثلاثة أجزاء وعتق منهم جزء بالقرعة بعد موته، وكذلك الحكم في الوصية بعتقهم. وخالف أشهب وأصبغ مالكا في العتق المبتل في المرض فقالا جميعا إنما القرعة في الوصية. وأما حكم العتق المبتل فهو كحكم المدبر. ولا خلاف في مذهب مالك أن المدبرين في كلمة واحدة إذا ضاق عنهم الثلث أنه يعتق من كل واحد منهم بقدر حظه من الثلث. وقال أبو حنيفة وأصحابه في العتق المبتل: إذا ضاق عنه الثلث أنه يعتق من كل واحد منه ثلثه. وقال الغير: بل يعتق من الجميع ثلثه. فقوم من هؤلاء اعتبروا في ثلث الجميع القيمة، وهو مذهب مالك والشافعي؛ وقوم اعتبروا العدد. فعند مالك إذا كانوا ستة أعبد: مثلا عتق منهم الثلث بالقيمة كان الحاصل في ذلك اثنين منهم أو أقل أو أكثر، وذلك أيضا بالقرعة بعد أن يجبروا على القسمة أثلاثا؛ وقال قوم: بل المعتبر العدد، فإن كانوا ستة عتق منهم اثنان وإن كانوا مثلا سبعة عتق منهم اثنان وثلث. فعمدة أهل الحجاز ما رواه أهل البصرة عن عمران بن الحصين "أن رجلا أعتق ستة مملوكين عند موته ولم يكن له مال غيرهم فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فجزأهم أثلاثا ثم أقرع بينهم فأعتق اثنين وأرق أربعة" خرجه البخاري ومسلم مسندا، وأرسله مالك. وعمدة الحنفية ما جرت به عادتهم من رد الآثار التي تأتي بطرق الآحاد إذا خالفتها الأصول الثابتة بالتواتر. وعمدتهم أنه قد أوجب السيد لكل واحد منهم العتق تاما، فلو كان له مال لنفد بإجماع، فإذا لم يكن له مال وجب أن ينفذ لكل واحد منهم بقدر الثلث الجائز فعلى السيد فيه، وهذا الأصل ليس بيننا من قواعد الشرع في هذا الموضع، وذلك أنه يمكن أن يقال له إنه إذا أعتق من كل واحد منهم الثلث دخل الضرر على الورثة والعبيد المعتقين، وقد ألزم الشرع مبعض العتق أن يتم عليه، فلما لم يمكن ههنا أن يتمم عليه جمع في أشخاص بأعيانهم لكن متى اعتبرت القيمة في ذلك دون العدد أفضت إلى هذا الأصل، وهو تبعيض العتق، فلذلك كان الأولى أن يعتبر العدد وهو ظاهر الحديث، وكان الجزء المعتق في كل واحد منهم هو حق لله فوجب أن يجمع في أشخاص بأعيانهم أصله حق الناس. واختلفوا في مال العبد إذا أعتق لمن يكون، فقالت طائفة: المال للسيد؛ وقالت طائفة: ماله تبع له، وبالأول قال ابن مسعود من الصحابة، ومن الفقهاء أبو حنيفة والثوري وأحمد وإسحق، وبالثاني قال ابن عمر وعائشة والحسن وعطاء ومالك وأهل المدينة. والحجة لهم حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "من أعتق عبدا فماله له إلا أن يشترط السيد ماله" وأما ألفاظ العتق، فإن منها صريحا ومنها كناية عند أكثر فقهاء الأمصار. أما الألفاظ الصريحة، فهو أن يقول: أنت حر، أو أنت عتيق وما تصرف من هذه، فهذه الألفاظ تلزم السيد بإجماع من العلماء. وأما الكناية فهي مثل قول السيد لعبده: لا سبيل لي عليك، أو لا ملك لي عليك، فهذه ينوي فيها سيد العبد، هل أراد به العتق أم لا؟ عند الجمهور. ومما اختلفوا فيه في هذا الباب إذا قال السيد لعبده: يا بني، أو لأمته يا بنتي، أو قال: يا أبي، أو يا أمي، فقال قوم وهم الجمهور: لا عتق يلزمه؛ وقال أبو حنيفة: يعتق عليه؛ وشذ زفر فقال: لو قال السيد لعبده: هذا ابني، عتق عليه وإن كان العبد له عشرون سنة وللسيد ثلاثون سنة. ومن هذا الباب اختلافهم فيمن قال لعبده: ما أنت إلا حر، فقال قوم: هو ثناء عليه وهم الأكثر؛ وقال قوم: هو حر، وهو قول الحسن البصري. ومن هذا الباب من نادى عبدا من عبيده باسمه، فاستجاب له عبد آخر، فقال له: أنت حر، وقال: إنما أردت الأول، فقيل يعتقان عليه جميعا، وقيل ينوي. واتفق على أن من أعتق ما في بطن أمته فهو حر دون الأم. واختلفوا فيمن أعتق أمة واستثنى ما في بطنها، فقالت طائفة: له استثناؤه؛ وقالت طائفة: هما حران. واختلفوا في سقوط العتق بالمشيئة، فقالت طائفة: لا استثناء فيه كالطلاق، وبه قال مالك؛ وقال قوم: يؤثر فيه الاستثناء كقولهم في الطلاق، أعني قول القائل لعبده: أنت حر إن شاء الله. وكذلك اختلفوا في وقوع العتق بشرط الملك، فقال مالك: يقع؛ وقال الشافعي وغيره: لا يقع، وحجتهم قوله عليه الصلاة والسلام: "لا عتق فيما لا يملك ابن آدم" وحجة الفرقة الثانية تشبيههم إياه باليمين. وألفاظ هذا الباب شبيهة بألفاظ الطلاق، وشروطه كشروطه، وكذلك الأيمان فيه شبيهة بأيمان الطلاق. وأما أحكامه فكثيرة: منها أن الجمهور على أن الأبناء تابعون في العتق والعبودية للأم، وشذ قوم فقالوا: إلا أن يكون الأب عربيا. ومنها اختلافهم في العتق إلى أجل؛ فقال قوم: ليس له أن يطأها إن كانت جارية ولا يبيع ولا يهب، وبه قال مالك؛ وقال قوم: له جميع ذلك، وبه قال الأوزاعي والشافعي واتفقوا على جواز اشتراط الخدمة على المعتق مدة معلومة بعد العتق وقبل العتق. واختلفوا فيمن قال لعبده: إن بعتك فأنت حر؛ فقال قوم: لا يقع عليه العتق لأنه إذا باعه لم يملك عتقه، وقال: إن باعه يعتق عليه، أعني من مال البائع إذا باعه، وبه قال مالك والشافعي، وبالأول قال أبو حنيفة وأصحابه والثوري. وفروع هذا الباب كثيرة، وفي هذا كفاية. (بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما). -والنظر الكلي في الكتابة ينحصر في أركانها وشروطها وأحكامها. -فمن مسائل هذا الجنس المشهورة اختلافهم في عقد الكتابة: هل هو واجب أو مندوب إليه؟ فقال فقهاء الأمصار: إنه مندوب؛ وقال أهل الظاهر: هو واجب، واحتجوا بظاهر قوله تعالى واختلفوا إذا قال له: قد كاتبتك على ألف درهم وسكت هل يكون حرا دون أن يقول له: فإذا أديتها فأنت حر؟ فقال مالك وأبو حنيفة: هو حر، لأن اسم الكتابة لفظ شرعي، فهو يتضمن جميع أحكامه؛ وقال قوم: لا يكون حرا حتى يصرح بلفظ الأداء. واختلف في ذلك قول الشافعي. ومن هذا الباب اختلاف قول ابن القاسم ومالك فيمن قال لعبده: أنت حر وعليك ألف دينار، فاختلف المذهب في ذلك؛ فقال مالك: يلزمه وهو حر؛ وقال ابن القاسم: هو حر ولا يلزمه. وأما إن قال: أنت حر على أن عليك ألف دينار، فاختلف المذهب في ذلك فقال مالك: هو حر والمال عليه كغريم من الغرماء؛ وقيل العبد بالخيار، فإن اختار الحرية لزمه المال ونفذت الحرية وإلا بقي عبدا؛ وقيل إن قبل كانت كتابة يعتق إذا أدى، والقولان لابن القاسم؛ وتجوز الكتابة عند مالك على عمل محدود، وتجوز عنده الكتابة المطلقة، ويرد إلى أن كتابة مثله كالحال في النكاح، وتجوز الكتابة عنده على قيمة العبد، أعني كتابة مثله في الزمان والثمن، ومن هنا قيل إنه تجوز عنده الكتابة الحالة. واختلف هل من شرط هذا العقد أن يضع السيد من آخر أنجم الكتابة شيئا عن المكاتب لاختلافهم في مفهوم قوله تعالى فأما كتابة المراهق القوي على السعي الذي لم يبلغ الحلم، فأجازها أبو حنيفة، ومنعها الشافعي إلا للبالغ، وعن مالك القولان جميعا. فعمدة من اشترط البلوغ تشبيهها بسائر العقود. وعمدة من لم يشترطه أنه لا يجوز بين السيد وعبده ما لا يجوز بين الأجانب، وأن المقصود من ذلك هو القوة على السعي، وذلك موجود في غير البالغ. وأما هل يجمع في الكتابة الواحدة أكثر من عبد واحد؟ فإن العلماء اختلفوا في ذلك، ثم إذا قلنا بالجمع فهل يكون بعضهم حملاء عن بعض بنفس الكتابة حتى لا يعتق واحد منهم إلا بعتق جميعهم؟ فيه أيضا خلاف. فأما هل يجوز الجمع؟ فإن الجمهور على جواز ذلك، ومنعه قوم، وهو أحد قولي الشافعي. وأما هل يكون بعضهم حملاء عن بعض؟ فإن فيه لمن أجاز الجمع ثلاثة أقوال: فقالت طائفة: ذلك واجب بمطلق عقد الكتابة، أعني حمالة بعضهم عن بعض، وبه قال مالك وسفيان؛ وقال آخرون: لا يلزمه ذلك بمطلق العقد ويلزم بالشرط، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه؛ وقال الشافعي: لا يجوز ذلك لا بالشرط ولا بمطلق العقد، ويعتق كل واحد منهم إذا أدى قدر حصته. فعمدة من منع الشركة ما في ذلك من الغرر، لأن قدر ما يلزم واحدا واحدا من ذلك مجهول. وعمدة من أجازه أن الغرر اليسير يستخف في الكتابة، لأنه بين السيد وعبده، والعبد وماله لسيده. وأما مالك فحجته أنه لما كانت الكتابة واحدة وجب أن يكون حكمهم كحكم الشخص الواحد. وعمدة الشافعية أن حمالة بعضهم عن بعض لا فرق بينها وبين حمالة الأجنبيين؛ فمن رأى أن حمالة الأجنبيين في الكتابة لا تجوز قال: لا تجوز في هذا الموضع. وإنما منعوا حمالة الكتابة لأنه إذا عجز المكاتب لم يكن للحميل شيء يرجع عليه، وهذا كأنه ليس يظهر في حمالة العبيد بعضهم عن بعض، وإنما الذي يظهر في ذلك أن هذا الشرط هو سبب لأن يعجز من يقدر على السعي بعجز من لا يقدر عليه، فهو غرر خاص بالكتابة، إلا أن يقال أيضا إن الجمع يكون سببا لأنه يخرج حرا من لا يقدر من نفسه أن يسعى حتى يخرج حرا فهو كما يعود برق من يقدر على السعي، كذلك يعود بحرية من لا يقدر على السعي. وأما أبو حنيفة فشبهها بحمالة الأجنبي مع الأجنبي في الحقوق التي تجوز فيها الحمالة فألزمها بالشرط ولم يلزمها بغير شرط، وهو مع هذا أيضا لا يجير حمالة الكتابة. وأما العبد بين الشريكين فإن العلماء اختلفوا هل لأحدهما أن يكاتب نصيبه دون إذن صاحبه، فقال بعضهم: ليس له ذلك والكتابة مفسوخة، وما قبض منها هي بينهم على قدر حصصهم؛ وقالت طائفة: لا يجوز أن يكاتب الرجل نصيبه من عبده دون نصيب شريكه؛ وفرقت فرقة فقالت: يجوز بإذن شريكه ولا يجوز بغير إذن شريكه، وبالقول الأول قال مالك، وبالثاني قال ابن أبي ليلى وأحمد، وبالثالث قال أبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه، وله قول آخر مثل قول مالك. وعمدة مالك أنه لو جاز ذلك لأدى إلى أن يعتق العبد كله بالتقويم على الذي كاتب حظه منه، وذلك لا يجوز إلا في تبعيض العتق؛ ومن رأى أن له أن يكاتبه رأى أن عليه أن يتم عتقه إذا أدى الكتابة إذا كان موسرا، فاحتجاج مالك هنا هو احتجاج بأصل لا يوافقه عليه الخصم، لكن ليس يمنع من صحة الأصل أن لا يوافقه عليه الخصم. وأما اشتراط الإذن فضعيف، وأبو حنيفة يرى في كيفية أداء المال للمكاتب إذا كانت الكتابة عن إذن شريكه أن كل ما أدى للشريك الذي كاتبه يأخذ منه الشريك الثاني نصيبه، ويرجع بالباقي على العبد فيسعى له فيه حتى يتم له ما كان كاتبه عليه، وهذا فيه بعد عن الأصول. وأما هل تجوز مكاتبة من لا يقدر على السعي فلا خلاف فيما أعلم بينهم أن شرط المكاتب أن يكون قويا على السعي لقوله تعالى -وأما المكاتب فاتفقوا على أن من شرطه أن يكون مالكا صحيح الملك غير محجور عليه صحيح الجسم. واختلفوا هل للمكاتب أن يكاتب عنده أم لا؟ وسيأتي هذا فيما يجوز من أفعال المكاتب مما لا يجوز؛ ولم يجز مالك أن يكاتب العبد المأذون له في التجارة، لأن الكتابة عتق ولا يجوز له أن يعتق؛ وكذلك لا يجوز كتابة من أحاط الدين بماله، إلا أن يجيز الغرماء ذلك إذا كان في ثمن كتابته إن بيعت (هكذا ببعض النسخ، وفي بعضها إسقاط لفظ: إن بيعت. ا هـ مصححه). مثل ثمن رقبته. وأما كتابة المريض، فإنها عنده في الثلث توقف حتى يصح فتجوز أو يموت فتكون من الثلث كالعتق سواء، وقد قيل: إن حابى كان ذلك وإن لم يحاب سعى، فإن أدى وهو في المرض عتق، وتجوز عنده كتابة النصراني المسلم، ويباع عليه كما يباع عليه العبد المسلم عنده فهذه هي مشهورات المسائل التي تتعلق بالأركان، أعني المكاتب والمكاتب والكتابة. وأما الأحكام فكثيرة، وكذلك الشروط التي تجوز فيها من التي لا تجوز. ويشبه أن تكون أجناس الأحكام الأولى في هذا العقد هو أن يقال متى يعتق المكاتب ومتى يعجز فيرق، وكيف حاله إن مات قبل أن يعتق أو يرق، ومن يدخل معه في حال الكتابة ممن لا يدخل، وتمييز ما بقي عليه من حجر الرق مما لم يبق عليه. فلنبدأ بذكر مسائل الأحكام المشهورة التي في جنس من هذه الأجناس الخمسة. فأما متى يخرج من الرق؟ فإنهم اتفقوا على أنه يخرج من الرق إذا أدى جميع الكتابة، واختلفوا إذا عجز عن البعض وقد أدى البعض، فقال الجمهور: هو عبد ما بقي من كتابته شيء، وإنه يرق إذا عجز عن البعض. وروي عن السلف المتقدم سوى هذا القول الذي عليه الجمهور أقوال أربعة: أحدها أن المكاتب يعتق بنفس الكتابة. والثاني أنه يعتق منه بقدر ما أدى. والثالث أنه يعتق إن أدى النصف فأكثر. والرابع إن أدى الثلث وإلا فهو عبد. وعمدة الجمهور ما خرجه أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "أيما عبد كاتب على مائة أوقية فأداها إلا عشرة أواق فهو عبد، وأيما عبد كاتب على مائة دينار فأداها إلا عشرة فهو عبد". وعمدة من رأى أنه يعتق بنفس عقد الكتابة تشبيهه إياه بالبيع، فكأن المكاتب اشترى نفسه من سيده، فإن عجز لم يكن له إلا أن يتبعه بالمال، كما لو أفلس من اشتراه منه إلى أجل وقد مات. وعمدة من رأى أنه يعتق منه بقدر ما أدى ما رواه يحيى بن كثير عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "يؤدي المكاتب بقدر ما أدى دية حر وبقدر ما رق منه دية عبد" خرجه النسائي، والخلاف فيه من قبل عكرمة، كما أن الخلاف في أحاديث عمرو بن شعيب من قبل أنه روى من صحيفة، وبهذا القول قال علي، أعني بحديث ابن عباس. وروي عن عمر بن الخطاب أنه إذا أدى الشطر عتق. وكان ابن مسعود يقول: إذا أدى الثلث. وأقوال الصحابة وإن لم تكن حجة، فالظاهر أن التقدير إذا صدر منهم أنه محمول على أن في ذلك سنة بلغتهم. وفي المسألة قول خامس: إذا أدى الثلاثة الأرباع عتق، وبقي عديما في باقي المال. وقد قيل إن أدى القيمة فهو غريم، وهو قول عائشة وابن عمر وزيد بن ثابت. والأشهر عن عمر وأم سلمة هو مثل قول الجمهور، وقول هؤلاء هو الذي اعتمده فقهاء الأمصار، وذلك أنه صحت الرواية في ذلك عنهم صحة لا شك فيها، روى ذلك مالك في موطئه. وأيضا فهو أحوط لأموال السادات، ولأن في المبيعات يرجع في عين المبيع له إذا أفلس المشتري. وأما متى يرق، فإنهم اتفقوا على أنه إنما يرق إذا عجز إما عن البعض وإما عن الكل بحسب ما قدمنا اختلافهم. واختلفوا هل للعبد أن يعجز نفسه إذا شاء من غير سبب، أم ليس له ذلك إلا بسبب؟ فقال الشافعي: الكتابة عقد لازم في حق العبد وهي في حق السيد غير لازمة؛ وقال مالك وأبو حنيفة: الكتابة عقد لازم من الطرفين: أي بين العبد والسيد. وتحصيل مذهب مالك في ذلك أن العبد والسيد لا يخلو أن يتفقا على التعجيز أو يختلفا، ثم إذا اختلفا فإما أن يريد السيد التعجيز ويأباه العبد، أو بالعكس، أعني أن يريد به السيد البقاء على الكتابة، ويريد العبد التعجيز. فأما إذا اتفقا على التعجيز فلا يخلو الأمر من قسمين: أحدهما أن يكون دخل في الكتابة ولد أو لا يكون، فإن كان دخل ولد في الكتابة فلا خلاف عنده أنه لا يجوز التعجيز. وإن لم يكن له ولد ففي ذلك روايتان: إحداهما أنه لا يجوز إذا كان له مال، وبه قال أبو حنيفة؛ والأخرى أنه يجوز له ذلك. فأما إن طلب العبد التعجيز وأبى السيد لم يكن ذلك للعبد إن كان معه مال أو كانت له قوة على السعي. وأما إن أراد السيد التعجيز وأباه العبد، فإنه لا يعجزه عنده إلا بحكم حاكم، وذلك بعد أن يثبت السيد عند الحاكم أنه لا مال له ولا قدرة على الأداء. ونرجع إلى عمدة أدلتهم في أصل الخلاف في المسألة، فعمدة الشافعي ما روي أن بريرة جاءت إلى عائشة تقول لها: "إني أريد أن تشتريني تعتقيني فقالت لها: إن أراد أهلك، فجاءت أهلها فباعوها وهي مكاتبة" خرجه البخاري. وعمدة المالكية تشبيههم الكتابة بالعقود اللازمة، ولأن حكم العبد في هذا المعنى يجب أن يكون كحكم السيد وذلك أن العقود من شأنها أن يكون اللزوم فيها أو الخيار مستويا في الطرفين، وأما أن يكون لازما من طرف وغير لازم من الطرف الثاني فخارج عن الأصول، وعللوا حديث بريرة بأن الذي باع أهلها كانت كتابتها لا رقبتها. والحنفية تقول: لما كان المغلب في الكتابة حق العبد، وجب أن يكون العقد لازما في حق الآخر المغلب عليه وهو السيد أصله النكاح، لأنه غير لازم في حق الزوج لمكان الطلاق الذي بيده وهو لازم في حق الزوجة، والمالكية تعترض هذا بأن تقول إنه عقد لازم فيما وقع به العوض، إذ كان ليس له أن يسترجع الصداق. وأما حكمه إذا مات قبل أن يؤدي الكتابة، فاتفقوا على أنه إذا مات دون ولد قبل أن يؤدي من الكتابة شيئا أنه يرق. واختلفوا إذا مات عن ولد فقال مالك: حكم ولده كحكمه، فإن ترك مالا فيه وفاء للكتابة أدوه وعتقوا، وإن لم يترك مالا وكانت لهم قوة على السعي بقوا على نجوم أبيهم حتى يعجزوا أو يعتقوا، وإن لم يكن عندهم لا مال ولا قدرة على السعي رقوا، وأنه إن فضل عن الكتابة شيء من ماله ورثوه على حكم ميراث الأحرار، وأنه ليس يرثه إلا ولده الذين هم في الكتابة معه دون سواهم من وارثيه إن كان له وارث غير الولد الذي معه في الكتابة. وقال أبو حنيفة: إنه يرثه بعد أداء كتابته من المال الذي ترك جميع أولاده الذين كاتب عليهم أو ولدوا في الكتابة وأولاده الأحرار وسائر ورثته. وقال الشافعي: لا يرثه بنوه الأحرار ولا الذين كاتب عليهم أو ولدوا في الكتابة، وماله لسيده وعلى أولاده الذين كاتب عليهم أن يسعوا من الكتابة في مقدار حظوظهم منها، وتسقط حصة الأب عنهم، وبسقوط حصة الأب عنهم قال أبو حنيفة وسائر الكوفيين. والذين قالوا بسقوطها قال بعضهم: تعتبر القيمة، وهو قول الشافعي؛ وقيل بالثمن؛ وقيل حصته على مقدار الرءوس. وإنما قال هؤلاء بسقوط حصة الأب عن الأبناء الذين كاتب عليهم لا الذين ولدوا في الكتابة، لأن من ولد له أولاد في الكتابة فهم تبع لأبيهم. وعمدة مالك أن المكاتبين كتابة واحدة بعضهم حملاء عن بعض، ولذلك من عتق منهم أو مات لم تسقط حصته عن الباقي. وعمدة الفريق الثاني أن الكتابة لا تضمن. وروى مالك عن عبد الملك بن مروان في موطئه مثل قول الكوفيين. وسبب اختلافهم ماذا يموت عليه المكاتب؟ فعند مالك أنه يموت مكاتبا؛ وعند أبي حنيفة أنه يموت حرا؛ وعند الشافعي أنه يموت عبدا. وعلى هذه الأصول بنوا الحكم فيه. فعمدة الشافعية أن العبودية والحرية ليس بينهما وسط، وإذا مات المكاتب فليس حرا بعد، لأن حريته إنما تجب بأداء كتابته وهو لم يؤدها بعد، فقد بقي أنه مات عبدا لأنه لا يصح أن يعتق الميت. وعمدة الحنفية أن العتق قد وقع بموته مع وجود المال الذي كاتب عليه، لأنه ليس له أن يرق نفسه، والحرية يجب أن تكون حاصلة له بوجود المال لا بدفعه إلى السيد. وأما مالك فجعل موته على حالة متوسطة بين العبودية والحرية وهي الكتابة، فمن حيث لم يورث أولاده الأحرار منه جعل له حكم العبيد، ومن حيث لم يورث سيده ماله حكم له بحكم الأحرار، والمسألة في حد الاجتهاد. ومما يتعلق بهذا الجنس اختلافهم في أم ولد المكاتب إذا مات المكاتب وترك بنين لا يقدرون على السعي وأرادت الأم أن تسعى عليهم، فقال مالك: لها ذلك؛ وقال الشافعي والكوفيون: ليس لها ذلك. وعمدتهم أن أم الولد إذا مات المكاتب مال من مال السيد؛ وأما مالك فيرى أن حرمة الكتابة التي لسيدها صائرة إليها وإلى بنيها. ولم يختلف قول مالك أن المكاتب إذا ترك بنين صغارا لا يستطيعون السعي، وترك أم ولد لا تستطيع السعي أنها تباع ويؤدي منها باقي الكتابة. وعند أبي يوسف ومحمد بن الحسن أنه لا يجوز بيع المكاتب لأم ولده، ويجوز عند أبي حنيفة والشافعي. واختلف أصحاب مالك في أم ولد المكاتب إذا مات المكاتب وترك بنين ووفاه كتابته، هل تعتق أم ولده أم لا؟ فقال ابن القاسم: إذا كان معها ولد عتقت وإلا رقت؛ وقال أشهب: تعتق على كل حال؛ وعلى أصل الشافعي كل ما ترك المكاتب مال من مال سيده لا ينتفع به البنون في أداء ما عليه من كتابته كانوا معه في عقد الكتابة، أو كانوا ولدوا في الكتابة، وإنما عليهم السعي؛ وعلى أصل أبي حنيفة يكون حرا ولابد؛ ومذهب ابن القاسم كأنه استحسان. وهو النظر فيمن يدخل معه في عقد الكتابة ومن لا يدخل. واتفقوا من هذا الباب على أن ولد المكاتب لا يدخل في كتابة المكاتب إلا بالشرط، لأنه عبد آخر لسيده. وكذلك اتفقوا على دخول ما ولد له في الكتابة فيها. واختلفوا في أم الولد على ما تقدم. وكذلك اختلفوا في دخول ماله أيضا بمطلق العقد، فقال مالك: يدخل ماله في الكتابة؛ وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا يدخل؛ وقال الأوزاعي: يدخل بالشرط، أعني إذا اشترطه المكاتب، وهذه المسألة مبنية على: هل يملك العبد أم لا يملك، وعلى هل يتبعه ماله في العتق أم لا؟ وقد تقدم ذلك. وهو النظر فيما يحجر فيه على المكاتب مما لا يحجر، وما بقي من أحكام العبد فيه. فنقول : إنه قد أجمع العلماء من هذا الباب على أنه ليس للمكاتب أن يهب من ماله شيئا له قدر ولا يعتق ولا يتصدق بغير إذن سيده، فإنه محجور عليه في هذه الأمور وأشباهها، أعني أنه ليس له أن يخرج من يده شيئا من غير عوض. واختلفوا من هذا الباب في فروع منها أنه إذا لم يعلم السيد بهبته أو بعتقه إلا بعد أداء كتابته، فقال مالك وجماعة من العلماء إن ذلك نافذ ومنعه بعضهم. وعمدة من منعه أن ذلك وقع في حالة لا يجوز وقوعه فيها فكان فاسدا. وعمدة من أجازه أن السبب المانع من ذلك قد ارتفع وهو مخافة أن يعجز العبد. وسبب اختلافهم هل إذن السيد من شرط لزوم العقد أو من شرط صحته؟ فمن قال من شرط الصحة لم يجزه وإن عتق؛ ومن قال من شرط لزومه قال يجوز إذا عتق لأنه وقع عقدا صحيحا، فلما ارتفع الإذن المرتقب فيه صح العقد كما لو أذن هذا كله عند من أجاز عتقه إذا أذن السيد، فإن الناس اختلفوا أيضا في ذلك بعد اتفاقهم على أنه لا يجوز عتقه إذا لم يأذن السيد، فقال قوم: ذلك جائز؛ وقال قوم: لا يجوز، وبه قال أبو حنيفة، وبالجواز قال مالك؛ وعن الشافعي في ذلك القولان جميعا. والذين أجازوا ذلك اختلفوا في ولاء المعتق لمن يكون، فقال مالك: إن مات المكاتب قبل أن يعتق كان ولاء عبده لسيده، وإن مات وقد عتق المكاتب كان له ولاؤه له؛ وقال قوم من هؤلاء: بل ولاؤه على كل حال لسيده. وعمدة من لم يجز عتق المكاتب أن الولاء يكون للمعتق، لقوله عليه الصلاة والسلام "إنما الولاء لمن أعتق" ولا ولاء للمكاتب في حين كتابته فلم يصح عتقه. وعمدة من رأى أن الولاء للسيد أن عبد عبده بمنزلة عبده؛ ومن فرق بين ذلك فهو استحسان. ومن هذا الباب اختلافهم في هل للمكاتب أن ينكح أو يسافر بغير إذن سيده؟ فقال جمهورهم: ليس له أن ينكح إلا بإذن سيده؛ وأباح بعضهم النكاح له. وأما السفر فأباحه له جمهورهم ومنعه بعضهم، وبه قال مالك وأباحه سحنون من أصحاب مالك، ولم يجز للسيد أن يشترطه على المكاتب، وأجازه ابن القاسم في السفر القريب. والعلة في منع النكاح أنه يخاف أن يكون ذلك ذريعة إلى عجزه. والعلة في جواز السفر أن به يقوى على التكسب في أداء كتابته. وبالجملة فللعلماء في هذه المسألة ثلاثة أقوال: أحدها أن للمكاتب أن يسافر بإذن سيده وبغير إذنه، ولا يجوز أن يشترط عليه أن لا يسافر، وبه قال أبو حنيفة والشافعي. والقول الثاني إنه ليس له أن يسافر إلا بإذن سيده، وبه قال مالك. والثالث أن بمطلق عقد الكتابة له أن يسافر إلا أن يشترط عليه سيده أن لا يسافر، وبه قال أحمد والثوري وغيرهما. ومن هذا الباب اختلافهم في هل للمكاتب أن يكاتب عبدا له؟ فأجاز ذلك مالك ما لم يرد به المحاباة، وبه قال أبو حنيفة والثوري. وللشافعي قولان: أحدهما إثبات الكتابة، والآخر إبطالها. وعمدة الجماعة أنها عقد معاوضة المقصود منه طلب الربح فأشبه سائر العقود المباحة من البيع والشراء. وعمدة الشافعية أن الولاء لمن أعتق ولا ولاء للمكاتب، لأنه ليس بحر. واتفقوا على أنه لا يجوز للسيد انتزاع شيء من ماله ولا الانتفاع منه بشيء. واختلفوا في وطء السيد أمته المكاتبة، فصار الجمهور إلى منع ذلك؛ وقال أحمد وداود وسعيد بن المسيب من التابعين ذلك جائز إذا اشترطه عليها. وعمدة الجمهور أنه وطء تقع الفرقة فيه إلى أجل آت فأشبه النكاح إلى أجل. وعمدة الفريق الثاني تشبيهها بالمدبرة. وأجمعوا على أنها إن عجزت حل وطؤها. واختلف الذين منعوا ذلك إذا وطئها هل عليه حد أم لا؟ فقال جمهورهم: لا حد عليه لأنه وطء بشبهة؛ وقال بعضهم: عليه الحد. واختلفوا في إيجاب الصداق لها، والعلماء فيما أعلم على أنه في أحكامه الشرعية على حكم العبد مثل الطلاق والشهادة والحد وغير ذلك مما يختص به العبيد. ومن هذا الباب اختلافهم في بيعه؛ فقال الجمهور: لا يباع المكاتب إلا بشرط أن يبقى على كتابته عند مشتريه؛ وقال بعضهم: بيعه جائز ما لم يؤد شيئا من كتابته، لأن بريرة بيعت ولم تكن أدت من كتابتها شيئا؛ وقال بعضهم: إذا رضي المكاتب بالبيع جاز، وهو قول الشافعي، لأن الكتابة عنده ليست بعقد لازم في حق العبد، واحتج بحديث بريرة إذ بيعت وهي مكاتبة. وعمدة من لم يجز بيع المكاتب ما في ذلك من نقض العهد، وقد أمر الله تعالى بالوفاء به، وهذه المسألة مبنية على هل الكتابة عقد لازم أم لا؟ وكذلك اختلفوا في بيع الكتابة، فقال الشافعي وأبو حنيفة: لا يجوز ذلك، وأجازها مالك ورأى الشفعة فيها للمكاتب، ومن أجاز ذلك شبه بيعها ببيع الدين، ومن لم يجز ذلك رآه من باب الغرر؛ وكذلك شبه مالك الشفعة فيها بالشفعة في الدين، وفي ذلك أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم، أعني في الشفعة في الدين؛ ومذهب مالك في بيع الكتابة أنها إن كانت بذهب أنها تجوز بعرض معجل لا مؤجل لما يدخل في ذلك من الدين بالدين. وإن كانت الكتابة بعرض كان شراؤها بذهب أو فضة معجلين أو بعرض مخالف، وإذا أعتق فولاؤه للمكاتب لا للمشتري. ومن هذا الباب اختلافهم هل للسيد أن يجبر العبد على الكتابة أم لا؟. وأما شروط الكتابة فمنها شرعية هي من شروط صحة العقد، وقد تقدمت عند ذكر أركان الكتابة. ومنها شروط بحسب التراضي، وهذه الشروط منها ما يفسد العقد، ومنها ما إذا تمسك به أفسدت العقد وإذا تركت صح العقد، ومنها شروط جائزة غير لازمة، ومنها شروط لازمة، وهذه كلها هي مبسوطة في كتب الفروع، وليس كتابنا هذا كتاب فروع، وإنما هو كتاب أصول. والشروط التي تفسد العقد بالجملة هي الشروط التي هي ضد شروط الصحة المشروعة في العقد. والشروط الجائزة هي التي لا تؤدي إلى إخلال بالشروط المصححة للعقد ولا تلازمها، فهذه الجملة ليس يختلف الفقهاء فيها، وإنما يختلفون في الشروط لاختلافهم فيما هو منها شرط من شروط الصحة أو ليس منها، وهذا يختلف بحسب القرب والبعد من إخلالها بشروط الصحة، ولذلك جعل مالكا جنسا ثالثا من الشروط، وهي الشروط التي إن تمسك بها المشترط فسد العقد، وإن لم يتمسك بها جاز، وهذا ينبغي أن تفهمه في سائر العقود الشرعية. فمن مسائلهم المشهورة في هذا الباب إذا اشترط في الكتابة شرطا من خدمة أو سفر أو نحوه وقوي على أداء نجومه قبل محل أجل الكتابة هل يعتق أم لا؟ فقال مالك وجماعة: ذلك الشرط باطل، ويعتق إذا أدى جميع المال؛ وقالت طائفة: لا يعتق حتى يؤدي جميع المال، ويأتي بذلك الشرط وهو مروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أعتق رقيق الإمارة وشرط عليهم أن يخدموا الخليفة بعد ثلاث سنين. ولم يختلفوا أن العبد إذا أعتقه سيده على أن يخدمه سنين أنه لا يتم عتقه إلا بخدمة تلك السنين، ولذلك القياس قول من قال: إن الشرط لازم. فهذه المسائل الواقعة المشهورة في أصول هذا الكتاب. وههنا مسائل تذكر في هذا الكتاب وهي من كتب أخرى، وذلك أنها إذا ذكرت في هذا الكتاب ذكرت على أنها فروع تابعة للأصول فيه، وإذا ذكرت في غيره ذكرت على أنها أصول، ولذلك كان الأولى ذكرها في هذا الكتاب. فمن ذلك اختلافهم إذا زوج السيد بنته من مكاتبه، ثم مات السيد وورثته البنت، فقال مالك والشافعي: ينفسخ النكاح لأنها ملكت جزءا منه، وملك يمين المرأة محرم عليها بإجماع؛ وقال أبو حنيفة: يصح النكاح، لأن الذي ورثت إنما هو مال في ذمة المكاتب لا رقبة المكاتب، وهذه المسألة هي أحق بكتاب النكاح. ومن هذا الباب اختلافهم إذا مات المكاتب وعليه دين وبعض الكتابة هل يحاص سيده الغرماء أم لا؟ فقال الجمهور: لا يحاص الغرماء؛ وقال شريح وابن أبي ليلى وجماعة: يضرب السيد مع الغرماء. وكذلك اختلفوا إذا أفلس وعليه دين يغترق ما بيده، هل يتعدى ذلك إلى رقبته؟ فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة: لا سبيل لهم إلى رقبته؛ وقال الثوري وأحمد: يأخذونه إلا أن يفتكه السيد. واتفقوا على أنه إذا عجز عن عقل الجنايات أنه يسلم فيها إلا أن يعقل عنه سيده، والقول في هل يحاص سيده الغرماء أو لا يحاص هو من كتاب التفليس، والقول في جنايته هو من باب الجنايات. ومن مسائل الأقضية التي هي فروع في هذا الباب وأصل في باب الأقضية اختلافهم في الحكم عند اختلاف السيد والمكاتب في مال الكتابة؛ فقال مالك وأبو حنيفة: القول قول المكاتب؛ وقال الشافعي ومحمد وأبو يوسف يتحالفان ويتفاسخان قياسا على المتبايعين، وفروع هذا الباب كثيرة، لكن الذي حضر منها الآن في الذكر هو ما ذكرناه، ومن وقعت له من هذا الباب مسائل مشهورة الخلاف بين فقهاء الأمصار وهي قريبة من المسموع، فينبغي أن تثبت في هذا الموضع إذ كان القصد إنما هو إثبات المسائل المشهورة التي وقع الخلاف فيها بين فقهاء الأمصار مع المسائل المنطوق بها في الشرع وذلك أن قصدنا في هذا الكتاب كما قلنا غير مرة: إنما هو أن نثبت المسائل المنطوق بها في الشرع المتفق عليها والمختلف فيها، ونذكر من المسائل المسكوت عنها التي شهر الخلاف فيها بين فقهاء الأمصار، فإن معرفة هذين الصنفين من المسائل هي التي تجري للمجتهد مجرى الأصول في المسكوت عنها وفي النوازل التي لم يشتهر الخلاف فيها بين فقهاء الأمصار سواء نقل فيها مذهب عن واحد منهم أو لم ينقل، ويشبه أن يكون من تدرب في هذه المسائل وفهم أصول الأسباب التي أوجبت خلاف الفقهاء فيها أن يقول ما يجب في نازلة نازلة من النوازل، أعني أن يكون الجواب فيها على مذهب فقيه فقيه من فقهاء الأمصار، أعني في المسألة الواحدة بعينها، ويعلم حيث خالف ذلك الفقيه أصله وحيث لم يخالف، وذلك إذا نقل عنه في ذلك فتوى. فأما إذا لم ينقل عنه في ذلك فتوى أو لم يبلغ ذلك الناظر في هذه الأصول فيمكنه أن يأتي بالجواب بحسب أصول الفقيه الذي يفتي على مذهبه، وبحسب الحق الذي يؤديه إليه اجتهاده، ونحن نروم إن شاء الله بعد فراغنا من هذا الكتاب أن نضع في مذهب مالك كتابا جامعا لأصول مذهبه ومسائله المشهورة التي تجري في مذهبه مجرى الأصول للتفريع عليها، وهذا هو الذي عمله ابن القاسم في المدونة، فإنه جاوب فيما لم يكن عنده فيها قول مالك على قياس ما كان عنده في ذلك الجنس من مسائل مالك التي هي فيها جارية مجرى الأصول لما جبل عليه الناس من الاتباع والتقليد في الأحكام والفتوى، بيد أن في قوة هذا الكتاب أن يبلغ به الإنسان كما قلنا رتبة الاجتهاد إذا تقدم، فعلم من اللغة العربية وعلم من أصول الفقه ما يكفيه في ذلك، ولذلك رأينا أن أخص الأسماء بهذا الكتاب أن نسميه كتاب: [بداية المجتهد وكفاية المقتصد] (بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما).
|